لقد ظل هذا الشبح يطاردني طيلة حياتي، لم يكف عن مطاردتي ولن يكف أبدًا ما حييت.كان ظهوره مبكرًا لدرجة أني لا أتذكر حياتي بدونه، لا أظن أنه ظهر من العدم؛ وإنما تكون تدريجياً، وكأنه قلعة تم تشييدها على مدار سنوات، والذين ساهموا في بنائها مئات؛ لدرجة أنني لم أعد أتذكرهم ولا أستطيع حصرهم، بل ربما حتى لا أعرفهم، كل فردٍ منهم تكفل بحجارةٍ لهذه القلعة، ولم يكن يدري أنها تبنى على كاهلي، وعلى صدري، وتطبق على أنفاسي.
إن هذا الشبح الذي صار بلا رحمة؛ أصبح يلاحقني في كل الأوقات، أثناء نومي، أثناء عملي، في حفل زفافي، في صلاتي، في سفري، يلاحقني من مدينةٍ إلى مدينةٍ دون كلل؛ والعجيب أنه لا يشيخ ولا يُستنزف، سنوات عدة أنتظر خبر وفاته، أنتظر غيابه المستدام، لكنه يفاجئني بقدومه المرعب المهيب، بوجه أكثر نضرة وحيوية وشباب، يقابلني بابتسامة باردة وساخرة، إنني أتساءل: أي شيء يتعاطاه هذا الملعون؟ وكيف يمكنني قتله أو على الأقل إزاحته من عالمي إن كان قتله مستحيلاً؟
يبدو حلاً عدوانياً، لكنني صدقاً حاولت معه بكل الطرق، أحاول التفاوض معه لكنه غير متفاعل، قليل الكلام ومتغطرس؛ إنه كائن ظلامي قوي الحجة، وحاد الطباع، لكنه لم يكن أبداً متقلب المزاج، إنه يدري قوته، ويمتلك حجته المنطقية التي ما زلت أبحث عن ردٍ لها، لا يختفي إلا بعد أن يطرح عليّ سؤالٌ واحدٌ يتكون من كلمتين، أنا أدري وهو يدري أنني لا أمتلك إجابة له، ليغيب بعدها قبل أن يعاود الظهور لاحقاً.
كنت أظن أنه مرتبطٌ بمدينة طفولتي القديمة حيث يتكدس البشر وتكتظ الذكريات، لكنني وجدته أيضاً في مدينة شبابي الجديدة التي تكاد تخلو من البشر، أتذكر يومها وجدته في وقتٍ متأخرٍ من الليل جالساً في ميدانٍ خالٍ بوسط المدينة، ركضت خائفاً وأنا أتلفت ورائي، لأجده واقفاً أمامي على رصيفٍ تحت شجرة مستنكراً هلعي، وبعد سنوات؛ هجرت المدينة إلى مدينة أخرى بعيدة لعله يفقد طريقي، لكنه- وآسفاه- اقتفى أثري.
أسافر في جولة إلى مدينة صغيرة أقصى الشمال، لأجده بجانبي وأنا منغمرٌ في الماء؛ أسأله يائسًا:
إلى متى؟ إلى متى تتبعني؟.
يُجب:
لا أدري، ربما للأبد.
اسأله: من تكون؟.
ينظر إليّ مندهشاً ولا يجيب.
اسأله: ماذا تريد؟.
يُجب علىّ منفعلاً بسؤاله المعتاد المكون من كلمتين.. أجيبه:
لا أدري!
عن الشبح الذي أرهقني - 9 يونيو 2023