“يا أستاذ عزت، يا عزت افندي”
هكذا عرفته لأول مرة.. هذا صوت أستاذ زكريا، أو “عمو زكريا” كما كنا دائماً نناديه، زوج عمتي، بصوت يصدح أمام باب المنزل أو أثناء صعوده درج البيت ليعبر عن قدومه إلينا، حاملاً على الأغلب بسكويت من النوع “شمعدان” الشهير وعدة أنواع أخرى، ومتميزاً عن غيره بنبرة نداء صوتية مهللة لم أسمعها إلا نادراً بحياتي، ومنادياً والدي ب “عزت” بدلاً من عزالدين، فضلاً عن تلقيبه ب “افندي”، كان أستاذ زكريا معتدل القامة والوزن ذا أعين بنية فاتحة صافية، وأذكره دائماً إما ببلوفر شتوي أو قميص، كان معلماً للرياضيات، وكنت أراه في الكثير من الأوقات يقرأ، إما القرآن أو بعض الجرائد مرتدياً نظارة تعينه على التقاط الحروف من الصفحات، مع ولعه بحل الكلمات المتقاطعة.
“أنا ماشي”
هكذا يقطع أستاذ زكريا الحديث فجأة مع أي شخص دون سابق إنذار، قد تظن للوهلة الأولى أنها مقولة غاضبة ناتجة عن خلاف بالرأي أو احتدام في وجهات النظر، ولكن الحقيقة أنها كلمة كانت تصدر فجائية محايدة ومسالمة، بدون سياق اعتراضي أو غاضب؛ أثناء حديث عادي في منتصفه قبل الانتهاء منه، ليعلن رغبته في الرحيل الفوري بحزم، ويرحل. كان أستاذ زكريا بمثابة أول تجسيد لمعنى الحرية لي كطفل لم يتم العشر سنوات بعد، كنت منبهراً للغاية بتلك الفكرة، أن ترحل عندما تريد ولا تتقيد بحديث يجب أن تتمه، أو إطار زمني ملتزماً أن تقضيه، فقد يجلس ٥ دقائق وقد يجلس نصف ساعة وقد يجلس ساعة، لا قواعد تجبره على البقاء، ولا يمكنك أن تتوقع الحركة القادمة، كان بعد رحيله من المنزل تسيطر علي فكرة: هل يمكن أن أفعل ذلك في مدرستي؟ أن أخبر المعلم في منتصف اليوم الدراسي أو مطلعه بأنني راحل وأرحل؟ بالطبع لا، وهذا ربما كان سبب إعجابي، اصطدامي بهذا المبدأ في حد ذاته كان فاتناً، حتى وإن لم يكن لي منه نصيب.
كان شديد اللطف مع الحيوانات وخصوصاً القطط، في إحدى الزيارات كان باب المنزل مفتوحاً ومرت قطة تبدو أنها جائعة، استطاع أن يكتسب ثقتها في لحظات، وجاءته ليحملها ويحتضنها ويمنحها بعض الطعام، وجعلني أمرر يدي على فروها دون خوف بعد أن كنت متوجسًا منها، وكان هذا أول ملمس ألمسه لحيوان في حياتي..
“يا حنااان”
كان نوم أستاذ زكريا متقطع وقليل، وأظنه كان يعاني من الأرق أحياناً، وكان مداوم الصلاة بالمسجد والمكوث بعد صلاة الفجر حتى الشروق بحسب ذاكرتي، وكان يحب النوم على سرير مطل على غرفة الاستقبال، لكن كان ثمة عادة دائما ما يكررها أثناء نومه أو قبيل نومه، وهي النداء على ابنته حنان، لا أعلم لماذا حنان تحديداً، فقد كان لديه عدة أبناء، لكن كان ينادي على حنان على وجه الخصوص، لم يكن النداء لحاجة أو لغرضٍ ما، بل كانت مجرد عادة، وكان الجميع في المنزل يعلم ذلك وبناء عليه لم يكن هناك حاجة لتلبية النداء بشكل متكرر.
“السلام عليكم”
كانت قصة وفاة الأستاذ زكريا عجيبة للغاية، تليق به وبحياته تماماً.. كان معتمراً بالسعودية، وأثناء وجوده في غرفة الفندق بجانب السرير فاجأ عمتي بقول:>“السلااام عليكم”ثم أرتمى على السرير ليعلن رحيل سريع هاديء لروح مطمئنة عن هذه الدنيا في مشهد استثنائي، ويُدفن هناك في أطهر بقاع الأرض، وأظنه جديراً بها ولا أزكي على الله أحداً رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته وألحقنا به على خير.